تعلم من السيرة النبوية

مقدمة

تعتبر السيرة النبوية بأحداثها وتفاصيلها مدرسة نبوية متكاملة، لما تحمله بين ثناياها من المواقف التربوية العظيمة والفوائد الجليلة، التي تضع للدعاة والمعلمين والمربين منهج التربية وحسن التعامل مع مواقف الحياة ومجرياتها، وهذه بعض من المواقف التربوية من حياة وسيرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -:

الشورى والمساواة من غزوة بدر والأحزاب

غزوة بدر هي إحدى الغزوات المليئة بالمواقف التربوية، ولعل من أبرزها موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تأكيده لمبدأ الشورى، باعتباره مبدأ من مباديء الشريعة، وصورة من صور التعاون على الخير، يحفظ توازن المجتمع، ويجسد حقيقة المشاركة في الفكر والرأي، بما يخدم مصلحة الجميع.

فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو المؤيد بالوحي - استشار أصاحبه في تلك الغزوة أربع مرات: حين الخروج لملاحقة العير، وعندما علم بخروج قريش للدفاع عن أموالها، واستشارهم عن أفضل المنازل في بدر، واستشارهم في موضوع الأسرى، وكل ذلك ليعلم الأمة أن تداول أي فكرة وطرحها للنقاش يسهم في إثرائها وتوسيع أفقها، ويساعد كذلك على إعطاء حلول جديدة للنوازل الواقعة.

وهذا الموقف التربوي في ترسيخ مبدأ الشورى ظهر كذلك جليا في غزوة الأحزاب...

لا للعصبية والفرقة في غزوة بني المصطلق

عند ماء المريسيع كشف المنافقون عن حقدهم الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين، فسعوا ـ كعادتهم دائما إلى يومنا هذا ـ إلى محاولة التفريق بين المسلمين، فبعد انتهاء الغزوة ـ كما يقول جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ: ضرب رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين.

فاستثمر المنافقون ـ وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول ـ هذا الموقف، وحرضوا الأنصار على المهاجرين، فسمع ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال: "ما بال دعوى الجاهلية؟!"، قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "دعوها فإنها منتنة" رواه البخاري.

إقالة ذوي العثرات

عندما أكمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ إلى قريش كتابا يخبرهم بمسير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها أجرا على أن تبلغه إلى قريش، فجعلته في ضفائر شعرها، ثم خرجت به إلى مكة.

ولكن الله ـ تعالى ـ أطلع نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما صنع حاطب، فقضى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذه المحاولة، ولم يصل قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وسيرهم لفتح مكة.

والخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير، إنه كشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها، ثم هذا الصحابي ليس من عوام الصحابة، بل هو من أولي الفضل منهم، إنه من أهل بدر، ويكفيه هذا شرفا، والصحابة بمجموعهم خير القرون بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومع كل هذا زلت به القدم في لحظة من اللحظات.

اذهبوا فأنتم الطلقاء

في السنة الثامنة من الهجرة نصر الله عبده ونبيه محمدا- صلى الله عليه وسلم - على كفار قريش، ودخل مكة فاتحا منتصرا، وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع أهل مكة، وقد امتلأت قلوبهم رعبا وهلعا، وهم يفكرون فيما سيفعله معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن تمكن منهم، ونصره الله عليهم.

وهم الذين آذوه، وأهالوا التراب على رأسه، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر، بل وتآمروا عليه بالقتل - صلى الله عليه وسلم -، وعذبوا أصحابه أشد العذاب، وسلبوا أموالهم وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم.

لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قابل كل تلك الإساءات بموقف تربوي كريم في العفو ـ يليق بمن أرسله الله رحمة للعالمين ـ، فقال لهم: "ما ترون أني فاعل بكم؟!"، قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" رواه البيهقي.

لا رجعة للوثنية

خرج مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة حنين بعض حديثي العهد بالجاهلية، وكانت لبعض القبائل ـ قبل الإسلام ـ شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها للتبرك بها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها، وبينما هم يسيرون مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ وقع بصرهم على الشجرة.

يقول أبو واقد الليثي - رضي الله عنه -: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم" رواه الترمذي.

لن نغلب اليوم من قلة

الغرور يمنع النصر، وإذا كانت غزوة بدر قررت للمسلمين أن القلة لا تضرهم شيئا بجانب كثرة أعدائهم، فإن غزوة حنين أكدت أن كثرة المسلمين لا تفيدهم ولا تنفعهم إذا لم يكونوا مؤمنين صادقين، إذ كان المسلمون في حنين أكثر عددا منهم في أي معركة أخرى خاضوها من قبل، ومع ذلك لم تنفعهم الكثرة شيئا لما دخل إلى قلوبهم العجب والغرور.

فقد حجب الغرور النصر عن المسلمين في بداية المعركة، حينما قال رجل من المسلمين: "لن نغلب اليوم من قلة"، فشق ذلك على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانت الهزيمة.

وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين }(التوبة:25).

مكتبة السيرة النبوية © 2023 - جميع الحقوق محفوظة

صمم بحب لخدمة العلم الشرعي